رواية الحروف المفقودة pdf - الفصل الأول
الحروف
المفقودة
دار
فنون للطباعة والنشر والتوزيع
المدير العام
أ / رائد قديح
اسم الكتاب: الحروف المفقودة
المؤلف: محمد أنور نوع
الكتاب: روايةعدد الصفحات: 207
مراجعة وتدقيق: مكتب الموهوب أ.د/ حازم الصبيحي
دار
فنون للطباعة والنشر والتوزيع
13ب ش أبو
الفدا - الهرم - أمام شارع العريش الجيزة - جمهورية مصر العربية
موبايل: 01208863389 - 01020454073
Email: dar.fonoon2020@gmail.com
الطبعة الأولى
1440 هـ - 2019 مرقم الإيداع
بدار الكتب المسرية
** / 2019م
الترقيم الدولي ISBN
** -** - 85535 - 977 - 978جميع الحقوق محفوظة
الحروف المفقودة
رواية / محمد أنور
(الهروب)
لم يكن من السهل عليه نسيان ما حدث....
فقد ظَّلَّ يركض، ويركض بعيدا، دون أن يعلم
لماذا يهرب، ولكنه أراد الهروب بشدة، لقد تعبت قدماه، واشتد عليه الألم، ولكن
رغبته في الهروب كانت أقوى، ولم يستطع التوقف.
وفجأة شاهد ضوءا ظهر من بعيد قادما، ويقترب منه،
وحينها فقط شعر بأن قدميه لن تسًتطيع أن تحمله أكثًر من ذلك؛ فاختل توازنه ،وسقط
مغشياً عليه.
***
في إحدى بقاع العالم المطلة على المحيط الأطلسي...
الساعة التاسعة مساءً ...
-
ماذا حدث يا جينيفر !
ومن هذا الشاب؟!
-
لا أدري، لقد وجدته
ملقياً على الأرض وسط الحشائش في طريق الغابة، وكان مغشياً عليه وحيداً، كما لاحظت
وجود بعض آثار دماء على قميصه كما ترى.
-
وهل هو مصاب؟
-
ربما، ولكنني لست
متأكدة من ذلك.
-
أعتقد أن علينا الاتصال
بالشرطة.
-
انتظر، يبدو أنه بدأ
يستعيد وعيه؛ فلنسأله عن قصته أولاً.
ذلك الحوار الذي سمعه «الشاب» الفاقد للوعي، وهو
يحاول فتح عينيه، وبالكاد يرى ضوء الغرفة بصورة غير واضحة، فسألته «جينيفر» بترقب:
-
هل أنت بخير؟
لم تجد «جينيفر» أي إجابة منه؛ فتنهدت، ثم استطردت في الحديث:
-
ماذا حدث لك؟ هناك بعض
آثار دماء على قميصك، هل أنت مصاب؟!
تلك الأسئلة التي بدت سهلة، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة له.
استردّ «الشاب» وعيه، وفتح عينيه؛ فرأى شابة
جميلة في العقد الثالث من عمرها ترتدي فستانا منفوشا، وبجوارها رجل ذو شارب سميك
في العقد السادس من عمره، يرتديً قبعة صغيرة، و»أفارول ،»وقميصا، وقد بدا على
وجهيهما علامات الاستفهام، ونظرات الحيرة والدهشة، التي أدهشته هو أيضا؛ً فنظر
إليهما في صمت للحظات ،ثم نظر حوله يتفقد المكان، فوجد نفسه مستلقيا على أريكه
خشبية مبطنة داخل صالة صغيرة لأحد المنازل الذي يغلبً على شكل أثاثه الطابع
الريفي، فكانت الصالة عبارة عن «أنتريه» يتكون من أريكتين ،الذي كان هو مستلقِ على
إحداهما، وبجوارها مقعد ومنضدة صغيرة ،ومن الناحية اليمنى يوجد منضدة طعام متوسطة
الحجم، خالية من أي طعام، إلا من طبق كبير يتوسطها، به بعض الفاكهة، ويلتف حولها
أربعة مقاعد خشبية على نفس تصميمها، وأثناء تفقده للمكان من حوله امتعض وجهه فجأة
من الألم، ووضع يده على مقدمة رأسه يتحسس أحد الجروح الذي بدا حديثا، ثم عاد بنظره
مرة أخرى إلى تلك الشابة والرجل بجوارها بعينين حاًئرتين، ولم يستطع الإجابة عن
أسئلتهم ثم قال واجماً:
-
لا أعلم، لا أعلم أي
شيء!
نظرت «جينيفر» إلى الرجل ذي الشارب السميك
بتعجب، ثم مدت يدها إلى «الشاب»؛ لتصافحه، وقالت:
-
أنا «جينيفر»، وهذا عمي
«مارك.»
فنظر «الشاب» إلى يدها لثوان قبل أن يمد يده
بدوره؛ ليصافحها ،ثم قال بحزن، ودهشة:
-
للأسف، أنا لا أتذكر
اسمي! ما الذي حدث لي؟! وأين أنا؟ هل هذا
منزلي؟! هل نحن أصدقاء؟! أنا لا أتذكر أي شيء!
دهشت «جينيفر» من أسئلته، وشعرت بأن ذلك «الشاب»
يبدو وأنه قد فقد ذاكرته؛ فسكتت قليلاً، ثم قالت له مشفقة:
-
في الحقيقة أنا لا أعلم
من أنت، أو ماذا حدث لك، وأنت الآن بداخل منزلنا أنا وعمي، وكل ما حدث أنني كنت
أقود سيارة عمي، وفي طريقي لإحضار بعض معلبات الطعام، لتخزينها قبل بداية موسم
الشتاء وسقوط الثلج؛ لأنه في تلك الفترة من السنة، فإن معظم محلات القرية تغلق
أبوابها، وعندما مررت بطريق الغابة شاهدت شيئا ملقىً على الأرض بجانب الطريق وسط
الحشائش، ونظراً لانتشار الظلامً الحالك ليلاًً؛ فقد ظننت في بداية الأمر بأن ذلك
الشيء ربما كان غزالاً، أو حيواناً آخر قد قضى نحبه، ولكن عندما أضأت مصابيح
السيارة العالية، وهدأت من سرعتها قليلاً، فوجدت أن ذلك الشيء هو أنت يا سيدي، فقد
كنت مستلقيا هناك، مغشيا عليك؛ فأوقفت
السيارة على جانب الطريق ،وترجلت منها، وتوجهتً إليك سريعا، ثم تحسست نبضك، فوجدت
أنك لازلت على قيد الحياة؛ فقمت بهزكً عدة مرات لعلك تستعيد وعيك ،ولكنني فشلت في
ذلك؛ فحاولت أن أرفعك قليلاً عن الأرض، ثم أدخلتك في سيارتي بعد عناء طويل، وعدت
إلى المنزل هنا مباشرة بعد ذلك؛ كي أخبر عمي «مارك» حتى يساعدني في نقلك بعدها إلى
أقرب مشفىً إذا لم تسترد وعيك سريعا، ولكن لحسن الحظ أنك استعدت وعيك الآن ،قبل أن
يصبح الأمر أكثر دًرامية.
اتسعت حدقة عين «الشاب» في ذهول، ثم رد بامتنان
ودهشة:
-
شكرا لكي سيدتي، يبدو
أنك قد أنقذت حياتي، وكان من الممكن إذا كنتِ قد تأخرتِ قليلاً، فلربما كنت أصبحت
أنا وجبة دسمة لذئب ما ،أو أي حيوان مفترس آخر في تلك الغابة المظلمة، ولكن ترُى
،ما الذي أتى بي إلى هذه الغابة من البداية؟!
ظل «الشاب»
صامتا قليلا، وإكتفي بالنظر إلي
جينيفر بعينين حائرتين، وعمَّ الصمت بالمكان للحظات، حتي قاطعه العم «مارك »بصوته
الغليظ كشاربه، قائلاً:
-
يبدو أنك فقدت ذاكرتك
يا بني عندما وقعت على الأرض ،واصطدمت رأسك بشيء صلب،
فنظر «الشاب» إلى العم «مارك»، ثم سأله بدهشة:
-
ربما، ولكن كيف علمت أن
رأسي اصطدم بشيء صلب يا سيد «مارك»؟!
فابتسم العم «مارك» ابتسامة ساخرة، ثم قال:
-
يوجد جرح ظاهر، وبعض الدماء
المتجلطة على رأسك، كما يبدو أنها قد تورمت قليلاً، فهذا توقعي ليس إلا.
فقاطعت حديثه «جينيفر» قائلة:
-
بالتأكيد أنت متعب يا
سيد ...، اسمح لي أن أطلق عليك اسم «فريد»، حتى نعلم اسمك الحقيقي
وابتسمت، ثم أكملت:
-
واسمح لي أيضا أن أحضر
لك بعض الطعام والحساء الساخن الذي سيشعرك بالدفء فيً هذا الطقس البارد، فيبدو أنك
مكثت في تلك الغابة طويلاً، وبالتأكيد أنت تشعر بالجوع الآن.
ثم ضحكت ضحكة خفيفة، وتوجهت إلى المطبخ.
ابتسم «الشاب» أو «فريد» كما أطلقت عليه جينيفر
هذا الإسم ،ولمعت عيناه عندما نظر إليها وهى تتحدث برقة بالغة.
فقد بدت «جينيفر» شابة جميلة، ذات بشرة بيضاء،
وملامح بريئة ورقيقة، شعرها طويل وكثيف
وناعم الملمس يميل لونه إلى البني الداكن، عيناها بنية اللون، وتبدو رشيقة الحركة
في مشيتها؛ فعندما تلتفت يتمايل شعرها يمينا ويساراً، وعندما تشاهدها فتشعر بأنها
طفلة صغيره تشد الانتباه، او ربًما مهر صغير خفيف الحركه يخطف قلبك ويعطيك شعورا
بالطاقه والحيوية.
وبعد قليل عادت «جينيفر» من غرفة المطبخ ببعض
الطعام والحساء الدافئ وقنينة ماء، ثم وضعتهما على مائدة الطعام، وساعد العم «مارك
»«فريد» في الوقوف، حتى أجلسه على أحد المقاعد بجوار المائدة، ثم جلس الجميع حولها
يتناولون الطعام.
كانت «جينيفر»
تسترق النظر إلى «فريد»، وهو يلتهم
الطعام بسرعة وبشراهة؛ فابتسمت، ثم قالت:
-
يبدو أنك كنت جائعا
بالفعل يا سيد «فريد.»
فشعر «فريد» بالحرج، واعتدل في مقعده، وبعدها
مباشرة سمع صوت جرس نغماته منتظمة؛ فتوقف عن تناول الطعام، ثم نظر إليهم ،وقال
متسائلاً:
-
ما هذا الصوت؟!
موجهاً السؤال ل»جينيفر»؛ فأجابته:
-
هذا صوت جرس مزلقان
القطار الذي يبعد عن منزلنا حوالى 100 متر، وبالطبع فهو يصدر ذلك الصوت كلما مر القطار من هذا المكان
،أعلم أن صوته مزعج بشدة؛ وذلك لقرب المسافة بينه وبين منزلنا ،ولكننا قد اعتدنا
على ذلك الصوت بشكل تام، حتى أصبح غير مسموع لنا تقريبا، بل وأشعر أنني لن أستطيع
أن أنام إذا ذهبت لأي منزل هادئ آخر ههههًهه.
ابتسم «فريد»، وسرح قليلاً في ذلك الصوت، ثم شعر
بألم في رأسه مرة أخرى؛ فأغمض عينيه، ووضع يده على ذلك الجرح الموجود برأسه ،وبدت
تعبيرات الألم تظهر على ملامح وجهه، وشرد بذهنه للحظات؛ فرأي نفسه مستقلا لأحد
القطارات، ثم يسمع ضجيجا، ويشاهد أمامه امرأة شقراء، وبعض الوجوه الأخُري غير
المألوفة التيً تظهر وتختفي أمام عينيه بسرعة، وفجأة يسمع صوت انفجار..!؛
فانتفض جسده، وفتح عينيه مرة أخرى على صوت
«جينيفر» وهي تقول:
-
سيد فريد .. سيد فريد
.. هل أنت بخير؟
-
نعم .. نعم أنا بخير،
ولكن أخبريني يا «جينيفر» .. من أين يأتي ذلك القطار وإلى أين يذهب؟
دهشت «جينيفر» من سؤاله، ولكنها أجابت:
-
لست متأكدة، ولكن أعتقد
أنه يأتي من مدينة «لابورت» في الشرق مروراً بعدة مدن، ومروراً بقرية «غابة
التلال» التي نتواجد بها الآن، حتى يصل إلى مدينة «ليشنر» على ساحل المحيط في
الغرب.
فسكت «فريد» قليلاً يفكر، ثم قال بحماس زائد:
-
إذا، وكيف أستطيع أن
أحجز مقعداً على متن هذه الرحلة؟!
-
يوجد شباك لحجز التذاكر
في محطة «تورينا» التي تبعد عن هنا حوالي سبعة عشر ميلا.
-
إذاً، وهل من الممكن أن
تصفي لي الطريق إلى تلك المحطة من فضلك؟
-
بالطبع، ولكن إلى أين
ستذهب هكذا فجأة يا سيد «فريد»؟!
-
لست متأكدا، ولكني أشعر
أنني على موعد ما مع هذا القطار ،وأريد أن أحجز أطول رحلة ممكنة، ربما أستطيع أن
أتذكر شيئاً.
سكتت «جينيفر» للحظات، ونظرت للعم «مارك»، ثم قالت:
-
حسنا سوف أصطحبك في
الصباح إلى هناك؛ لأنه قد انتهت إمكانية الحًجز لهذا اليوم منذ ساعات، فلتنل أنت
قسطا من الراحة اليوم، وسوف أوقظك أنا في الصباح؛ لنذهب معاً إلى هناكً، تفضل من
هنا سيد «فريد»، هذه هي غرفتك، تفضل
توجه «فريد»
إلى الغرفة المشار إليها بعد أن شكر «جينيفر »بابتسامة متعبة، ثم ذهب إلى
الداخل، ونظر حوله يتفقد محتوياتها ،فقد كانت غرفة متواضعة للغاية، فعلى الجانب
الأيمن لباب الغرفة يوجد فراش خشبي عليه مرتبة قطنية بدون ملاءة، وعليه غطاء من
الصوف رمادي اللون، وبجوار الفراش يوجد «كومود»، ودولاب صغير الحجم، وبجوارهم
مقعد، وصندوق خشبي يصلح لتخزين الملابس التي لا حاجة لها في الوقت الحالى، وفي
الجهة الأخرى توجد بعض اللوحات لمناظر طبيعية معلقة على الحائط، وكانت الغرفة
مرتبة بشكل جميل رغم تواضعها، ويغلب عليها الطابع الريفي الهادئ كبقية طراز
المنزل.
جلس «فريد» على حافة الفراش، ثم تذكر أنه لم
يفحص ملابسه منذ أن استرد وعيه، فربما كان هناك شيئ ما بداخل جيوبها؛ فوضع يده
يفتش بداخل جيوب بنطاله، ثم جيوب معطفه، محاولاً العثور على تحقيق شخصيته، أو ربما
أي شيء آخر يدل على هويته، ولكنه لم يعثر على أي شيء؛ فشعر بخيبة أمل، ثم نظر إلى
الأرض، وسرح بخياله محاولاً أن يستجمع قواه العقلية لربما يتذكر أي شيء، وجلس
يتساءل محاورا عقله:« ترُى من أنا؟! .. وما هو اسمي الحقيقي؟! .. وما الذي أتى بيً إلى هذا المكان؟! وأين أسكن
.. وأين عائلتي؟! .. وأين، وماذا ،وكيف؟! ...،» أسئلة كثيرة مرت بعقله دون أن يجد
لها إجابات .
كان «فريد» شابا في بداية العقد الرابع من عمره،
متوسط الطول ،يتمتع بوسامة نسبية، ذو بشرة قمحية، عينان زرقاوان، وأنف دقيق ،وشعر
بني داكن اللون ناعم الملمس ممشط على الجهة اليمنى وإلى الخلف قليلاً بأكمله،
ماعدا ذلك الجزء الأيسر منه الذي كان يشير إلى أسفل، و يفصل بين الجانبين ذلك
الفارق المعهود، وكان يرتدي بنطاًلًا «جينز»
بني اللون، و»بلوفر» بيج من الصوف،
ومعطًفًا أزرقاً داكن اللون، وحذاءًا جلدياً أسود متقن الصنع، وقد بدا جليا
على ملابسه ذات الماركات الشهيرة بأنه من الأثرياء، كما كان واضحا أًيضا أنه لا
ينتمي إلى هذا المكان الريفي البسيط، وأثناء توارد هذه الأفًكار فًي ذهنه غلبه
النعاس، واستغرق في النوم.....
-
أرجوك اتركني، لا تفعل
بي هذا، سأعطيك ما ترُيد، ولكن اتركني أذهب بسلام، وأعود لحياتي الطبيعية، أرجوك،
أرجوك، أرجوووووو ...
)صوت انفجار(
-
اتركهااااا ...
هكذا استيقظ «فريد» من نومه غارقا في عرقه، وأدرك
أنه كان يحلم؛ فهدأ من روعه، ونظر بجوار الفراش، فوًجد قنينة ماء على «الكومود
»بجواره، فجلس وأخذ منها رشفه، ثم نظر في ساعة يده (السينيه)، والتي استطاع أن
يقرأ عليها اسم الشركة المنتجة بصعوبة؛ لتهشم زجاجها ،فوجد أنها تشير إلى الثانية
والربع بعد منتصف الليل، ثم نظر إلى ملابسه، ولاحظ أنه مازال يرتدي معطفه؛ فهَمَّ
من مجلسه، وتوجه إلى الدولاب الموجود بجوار الفراش وفتحه، ثم خلع معطفه وقام بثنيه
وألقاه على الرف بداخله، وأثناء تلامس المعطف للرف الخشبي، سمع«فريد» صوتاً صدر
منه وكأن بداخله ورقة ما؛ فأمسك بمعطفه مرة أخرى بلهفة، وفتشه جيدا تلك المرة؛
فعثر بداخله على جيب صغير غير ملحوظ في بطانته من الدًاخل، فوضع أصابعه بداخله،
وأخرج قطعتين من الورق الأصفر، ثم نظر إليهما، فوجد أنهما تذكرتان لركوب القطار من
محطة تدعي «تيميس» إلى محطة «تورينا» التي أخبرته «جينيفر »بأنها المحطة الأقرب
إلى منزلها، وقرأ عليهما أرقام المقاعد« 33 و34»
بتاريخ 15/12/1992
سرح قليلاً وازدادت حيرته، ثم توجه ناحية باب
الغرفة؛ ليستعلم من «جينيفر» عن تاريخ اليوم، ففتح الباب ونادى «جينيفر»، التي أتت
إليه مسرعة، لعله شعر بتعب ما، فسألها عما يريد معرفته، فابتسمت ،وتنهدت، ثم
أجابته بأن اليوم هو السبت 16/12/1992، فابتسم، واعتذر لها على إزعاجها في ذلك الوقت المتأخر من الليل،
ثم شكرها، وعاد مرة أخرى إلى الفراش، وجلس على حافته يفكر في ذلك الصوت المألوف من
حلمه، وذلك الشعر الأصفر الذي شعر بأنه يعرفه جيداً، وتوالت الأسئلة المتتابعة على
ذهنه مرة أخرى:
«ترُى من هذه السيدة؟! .. ومن هو هذا الشخص التي كانت ترجوه؟! .. ترُى هل ما رأيته في
حلمي قد حدث بالفعل من قبل ويسترجعه عقلي الآن؟ .. أم أن ما أراه ليس إلا أضغاث
أحلام تداعب عقلي في هذا التوقيت غير المناسب أبدًا؟!»
سرح قليلاً، ثم نظر مرة أخرى إلى التذكرتين
بداخل يده، وأحس بأن شعوره تجاه هذا القطار كان صحيحاً بالفعل، أو على الأقل فهو
أصبح يعلم الآن الوسيلة التي أتى بها هنا إلى هذه القرية، وتحدث بداخله ثانيةً
قائلاً:
«يبدو أنني سوف أبدأ البداية الصحيحة بركوبي ذلك القطار غدا»، وبعد
لحظات من التفكير استلقى بجسده على الفراش، وأغمض عينيهً ،وسرعان ما استغرق في
نومه مرة أخرى.. ..
***
في الساعة الثامنة
صباحاً ..
(تك، تك، تك، )طرقات على باب الغرفة
-
سيد «فريد» هل استيقظت؟
.. سيد «فريد .»
سمع «فريد» صوت «جينيفر» خلف باب الغرفة؛ ففتح عينيه
على الفور، ثم أجاب:
-
نعم «جينيفر»، سوف أخرج
حالا.
مسح «فريد» على وجهه بيده، ثم خرج من الغرفة،
وتوجه إلى الصاله، فوجد الإفطار موجودًا على مائدة الطعام، وكان العم «مارك
»جالسًا بجوار المائدة ينظر إليه بترقب، قبل أن يقول له:
-
تفضل يا بني.
ثم أتت «جينيفر» من المطبخ ببعض الخبز الساخن، وجلسوا جميعهم حول المائدة يتناولون الطعام
الريفي الشهي المتنوع ما بين الجبن بأنواعه وألوانه والعسل الأبيض، فضلا عن بعض
ثمار الخضروات والفاكهة أيضا، وبعد ذلك تناول كل منهم قدحا من الشاي، ثم
قالت«جينيفر» بابتسًامتها الرقيقة:
-
نتمنى أن تكون قد نلت
قسطاً من الراحة في بيتنا المتواضع يا سيد «فريد.»
-
في الحقيقة لا أعلم كيف
أستطيع أن أشكركم على كل هذا الكرم وحسن الضيافة، وأتمنى أن أستطيع يوما ما رد هذا
الدين.
ثم نظر «فريد» إلى «جينيفر» بابتسامة واستطرد..
-
وبالطبع أخص بالشكر
«ميس جينيفر» على إنقاذ حياتي بالأمس ،وفي الحقيقة أنا لا أريد أن أثقل كاهلكم بي
أكثر من ذلك، فلتصفي لي يا «جينيفر» مكان محطة القطار، وسوف أتوجه أنا بمفردي إلى
هناك الآن.
فابتسمت له «جينيفر» ثم قالت:
-
ولكن كيف ستصل إلى هناك
بمفردك يا سيد «فريد»؟ فبالطبع ستحتاج إلى وسيلة مواصلات لتنقلك إلى هناك؛ لأن تلك
المحطة بعيدة عن هنا كما أخبرتك أمس، ولن تجد أفضل وأسرع من سيارة عمي «مارك » لتحملك
إلى هناك، وذلك لقلة وسائل الانتقال هنا في القرية أيضا.
قالتها وهي تنظر إلى العم «مارك» الذي كان يقرأ
إحدى الصحف ،وكأنه لم يسمع ما قالته «جينيفر»؛ فقامت بنكزه في قدمه بإحدى قدميها
من أسفل المائدة، فنظر إليها «مارك» بضيق ثم قال:
-
نعم، نعم بالطبع، سوف
أصطحبكم إلى هناك، هل أنت مستعد الآن يا «فريد»؟
كتم «فريد» ضحكة في فمه بعد أن لاحظ ما حدث ثم قال:
-
أشكرك يا سيد «مارك»،
نعم أنا مستعد، فلنتحرك الآن.
استقل الثلاثة سيارة العم «مارك»، والتي كانت
واحدة من تلك السيارات قديمة الطراز للغاية، والتي تم إيقاف إنتاجها منذ أكثر من
نصف قرن على ما يبدو، ويبدو أنها كانت ملك جد «مارك» ثم ورثها عنه أبوه، قبل أن
يرثها هو الأخر عنهما، وبعد دقائق من تحرك السيارة ،وهم في طريقهم إلى محطة
القطار، أشارت «جينيفر» إلى مكان يبعد عن الطريق بحوالى خمسة أمتار وسط الحشائش،
وقالت ل «فريد:»
-
لقد وجدتك هناك يا
«فريد» ملقياً على الأرض خلف هذه الشجرة.
نظر «فريد» إلى المكان المشار إليه بدهشة، وتنفس
الصعداء، ثم نظر إلى «جينيفر» وابتسم بخجل، واستمرت السيارة بعد ذلك بالسير لمسافة
ميلٍ آخر بعد هذا المكان، وكان «فريد» موجهاً نظره من خلال نافذة السيارة إلى
الخارج يتأمل الأشجار والحشائش الخضراء الكثيفة والغابة الكبيرة كذلك التي لا
يستطيع رؤية آخرها على جانبي الطريق ،وكان شارد الذهن تائهاً، محاولاً دائما أن
يتذكر أي شيء، ولكن في كل مرة يفشل في ذلك، وفجأة لمح شيئاً أحمر اللون داخل
الغابة يبعد حوالى مائتي متر عن الطريق، فصرخ فجأة قائلاً:
-
توقف يا سيد «مارك»،
توقف الآن من فضلك.
فاضطرب «مارك»،
وأمسك بمكابح السيارة فجأة حتى أصدرت إطاراتها صوت احتكاك مزعج بأرض الطريق
قبل أن تتوقف، ثم التفت إلى «فريد» بدهشة، وقال:
-
ماذا يحدث يا فريد؟!
لماذا جعلتني أتوقف هگ...؟!
وقبل أن يكمل سؤاله، فإذا ب«فريد»
يفتح باب السيارة ،ويركض مسرعا داخل الغابة نحو ذلك الشيء الأحمر الذي
لمحته عيناه ،ففتحت «جينيفًر» الباب، وذهبت خلفه محاولة اللحاق به، ومن خلفهم العم
«مارك» بعد أن ترك السيارة على جانب الطريق، ولكن بخطوات ثقيلة، وليست بسرعة
خطواتهما.
كان «مارك» رجًلًا طويل القامة، سمين الجسم،
يرتدي دائما «أفارولاً ،»وقميصا، له شارب سميك مبروم إلى أعلى يشبه ملوك العصورً
القديمة ،ملامح وًجهه كبيرة، وأنفه ضخم، ولكن مع تلك الملامح الجامدة يوحي بأنه
طيب القلب حنون، فضلاً عن تجاوزه الخمس وخمسين عاماً أو أكثر من ذلك.
وصل «فريد»، ووصلت «جينيفر» بعده مباشرة إلى ذلك
الشيء الأحمر، ووجدوا أنها سيارة دفع رباعي حمراء اللون من الطراز الحديث ،ويبدو
أنها قد تم إنتاجها العام الحالى، وكانت مصطدمة بشجرة من المقدمة، وزجاجها الأمامي مهشم بالكامل، فنظر «فريد»
بداخلها ،ولاحظ أن مفتاح تشغيل السيارة لازال في المكان المخصص لتشغيل
المحرك، وبدت أنها قد اصطدمت بتلك الشجرة حديثاً، وكأن قائدها كان في عجلة من أمره،
حتى أنه ترك مفاتيحها بداخلها.
أغمض «فريد» عينيه، وشرد بذهنه للحظات، وبدا
وكأنه يتذكر شيئاً، ثم فتح عينيه ثانية، ونظر إلى «جينيفر» التي كانت تنظر إليه
بترقب ،وقال لها بتفاؤل:
-
أعتقد أنني كنت بداخل
هذه السيارة، ابحثي معي يا «جينيفر »بداخلها، فربما نجد أي شيء مفيد.
ففتحا كلاهما أبواب السيارة، وذهبا إلى الداخل،
وظلا يبحثان في أدراج السيارة والأبواب من الداخل وأسفل المقاعد، ثم نزل «فريد» من
السيارة، وفتح الصندوق الخلفي الخاص بها، وبحث به جيداً، دون أن يعثرا على شيء عدا
بعض معدات ميكانيكا السيارة، ولكن لم يستسلم «فريد» سريعاً، ودخل السيارة مرة
أخرى، وأعاد تفتيشها ثانيةً بطريقة أكثر دقة، ولكن دون جدوى أيضاً، فترجل الاثنان
من السيارة، وقد بدا الغضب والحزن الشديد علي ملامح «فريد»، ونظر إلى «جينيفر»
بخيبة أمل، التي لاحظت ذلك، فقالت له:
-
هل أنت متاكد أنك كنت
بداخل هذه السيارة؟! فربما تكون قد أخطأت
يا «فريد.»
-
في الحقيقة أنا لست
متأكدا، ولكن تأتيني بعض المشاهد بعقلي ،وكأنني كنت أقود هذه السيارة، ثمً أشاهد
بعض الوجوه لبعض الأشخاص المجهولين، وأشاهد سيارة أخرى داكنة اللون، ربما تكون
رمادية أو سوداء اللون، شيئاً من هذا القبيل و ...
ثم أمسك الشاب «فريد» عن الكلام فجأة، وشعر أنه
يهلوس، وأن عقله يتلاعب به، وقال بخيبة أمل وضيق:
-
يبدو أنني كنت مخطئاً
للأسف.
قالها وهو يضرب بيده من شدة غيظه على سقف
السيارة من أعلى ،فسقط شيئ بحجم ورقة صغيرة في السيارة من الداخل، فلمحه «فريد
،»ثم فتح باب السيارة بلهفة، ونظر أسفل مقعد السائق، ثم مد يده و إلتقط صورة
فوتوغرافية صغيرة، ونظر إليها بدهشة شديدة، واتسعت حدقة عينيه، فالتفتت «جينيفر»
ووقفت بجواره؛ لتشاهد ما بيده، فوجدت أنها صورة فوتوغرافية له، وبجواره سيدة جميلة
شقراء، ذي عينٍ زرقاء ،وبشرة بيضاء، وكانت السعادة تقفز من عيني كليهما، وبدا جليا
أن هناك علاقة وطيدة تربطهما معا، فالتقطت «جينيفر» الصورة من يدهً، ونظرت إليها
جيدا، ثم قلبتها، ونظرًت إليها من الخلف، لتجد عبارة « «مع حبي ..سارة»؛ فشًعرت
بالدهشة، ثم رفعتها إلى أعلى أمام أعين «فريد»؛ كي يقرأ تلك العبارة، التي زادت من
حيرته أكثر حينما قرأها، وعم الصمت والدهشة بالمكان مع وصول العم «مارك» إليهما في
تلك اللحظة لاهثاً وعلى وجهه علامات الاستفهام والتعب، قائلاً بغضب:
-
ماذا يحدث هنا؟!
نظرا الاثنان إلى العم «مارك»، ثم أعطته
«جينيفر» الصورة دون أن تتحدث، فنظر إليها ثم قال ل»فريد»، وكأنه لاحظ شيئاً غير
ملحوظ:- يبدو أنكما على علاقة وطيدة يا «فريد»، هل هي زوجتك؟
-
لا أعلم، ولكن يبدو
أنني أعرفها جيدا، وأكن لها بعض المشاعر أيضا؛ً كي أترك تلك الصورة بعينها داخل
الًسيارة، كما يبدو أيضا أن هذه السيارة ملك لي، أو ربما سيارتها هي، لا أدري،
وأتذكر عندما كنًت نائمًا الليلة الماضية أنني قد رأيت في حلمي سيدة ذات شعر أصفر
،ولكنني لا أتذكر ملامحها جيدا، ربما كانت هي نفس السيدة، وقد كانت تستغيث وتتوسل
لشخص ما أنً يتركها وشأنها .
فنظرت «جينيفر» إلى العم «مارك»، ثم قالت ل»فريد:»
-
لقد كُتب على الصورة أن
اسمها سارة، فهل تتذكر أي شيء يتعلق بهذا الاسم؟
فالتقط «فريد» الصورة من يدي «مارك»، ونظر إليها
نظرة أخيرة قبل أن يضعها في جيب معطفه، وقال باستياء:
-
للأسف، أنا لا أتذكر
شيئا، هيا بنا نذهب الآن حتى نستطيع اللحاق بشباك التذاكر قبل أن تنفذ تذًاكره.
عاد الثلاثة مرة أخرى لسيارة «مارك»، وأكملوا
طريقهم إلى المحطة ،وفي الطريق كان «فريد» يتأمل الصورة، ويحدث نفسه متسائلاً:
«ترُى من أنت يا سارة؟! وما حقيقة علاقتنا معا؟! هل أنت زوجتي؟!
أم مجرد صديقة، وهل سأقابلك ثانيةً، وكيف؟!»
******

تعليقات
إرسال تعليق